قراءة غير منحازة تتناول موقف الكنيسة بين الجوهر الحي والبنية المؤسسية الجامدة وخطر فقدان جوهر الرسالة الروحية


جوهر الكنيسة الحي

الكنيسة في جوهرها ليست مجرد بناء أو إدارة، بل جسد المسيح الحي، ومركز الحياة التعبدية الحقيقية التي تنبض من قلب اللاهوت الاختباري. هي المكان الذي فيه يُختبر الإيمان كحياة، لا كفكرة، وفيه تُمارس الأسرار كطريق اتحاد بالله، لا كطقس شكلي. لكن حين تتحول الكنيسة إلى مجرد مؤسسة دينية تتشابه في بنيتها ونظامها مع المؤسسات البشرية الأخرى، تبدأ عملية فقدان الهوية والرسالة بشكل تدريجي، حتى وإن ظل الشكل الخارجي قائمًا.

church-spirit-bureaucracy


بداية التحول وفقدان الرسالة

هذا التحول يبدأ عندما يتراجع حضور اللاهوت الاختباري ليحل محله التفكير الإداري البحت. فبدل أن يكون التعليم الكنسي دعوة للاتحاد بالله، يصبح مادة معرفية جافة، وبدل أن تكون الخدمة انسكاب محبة على النفوس، تتحول إلى نشاط مُنظم تُقاس نتائجه بالأرقام. حتى الطقس، الذي هو في أصله وعاء للنعمة، قد يتحول إلى روتين ميكانيكي تُؤدى فيه الكلمات والحركات دون حرارة روحية أو وعي لاهوتي. ومع الوقت، يبهت الحضور الإلهي ويضعف التأثير الروحي، وتصبح الكنيسة شكلًا بلا روح.


هيمنة البيروقراطية على الحياة الكنسية

إحدى العلامات الخطيرة على هذا الانزلاق هي هيمنة البيروقراطية على الحياة الكنسية. فحين تصبح الاجتماعات واللوائح والموازنات أهم من الصلاة والصوم وخدمة الكلمة، تنقلب الأولويات رأسًا على عقب. ويحل منطق المؤسسة محل منطق الملكوت، فيفقد المؤمنون تدريجيًا خبرة الشركة الحقيقية، ويضعف الحس الروحي لصالح الانشغال بالمظاهر والهيكلية.


إسكات الصوت النبوي

كما أن هذا التحول غالبًا ما يؤدي إلى إسكات الصوت النبوي داخل الكنيسة. ففي الكنيسة الحية، يُسمع صوت الروح القدس من خلال خدام وأنبياء يوقظون الضمير ويعيدون التوجيه، لكن في الكنيسة التي طغى عليها الشكل المؤسسي، يُنظر إلى هذه الأصوات باعتبارها تهديدًا للاستقرار، فيُقصى أصحابها أو يُهمَّشون، وبهذا تفقد الكنيسة قدرتها على تصحيح مسارها من الداخل.


الانحدار التدريجي وفقدان المصباح

الانحدار لا يحدث دفعة واحدة، بل يتسلل تدريجيًا: ضعف في حرارة العبادة، فتور في التعليم، تراجع في المحبة الأخوية، وتزايد الاعتماد على الإدارة الباردة. وعندما يصل هذا المسار إلى نهايته، قد تبقى الكنيسة محترمة في أعين المجتمع كمؤسسة منظمة، لكنها تكون قد فقدت مصباحها أمام الله، مثلما حذر سفر الرؤيا.


أيقونة الملكوت لا نسخة من البيروقراطية

الكنيسة وُجدت لتكون أيقونة حيّة للملكوت، لا نسخة مطورة من البيروقراطية. ومهما كان وجود البنية الإدارية ضروريًا لخدمة العمل الروحي، فإنها يجب أن تبقى دومًا خادمة للرسالة، لا سيدة عليها. الإصلاح يبدأ من العودة إلى قلب اللاهوت الاختباري، حيث يُعاش الإيمان لا كمجموعة أنظمة، بل كخبرة حياة متجددة بالروح القدس، قادرة أن تنقل المسيح للعالم بسلطان الحضور، لا بمجرد جمال الشكل

نداء من القلب إلى القلب

إن الكنيسة التي تكتفي بالشكل وتُهمل الروح، تفقد ببطء ملامحها حتى لا تعود تُرى إلا كأي مؤسسة بشرية أخرى. وما لم نرجع جميعًا — رعاةً وشعبًا — إلى ينابيع الحياة الحقيقية، حيث المسيح هو المركز والروح القدس هو القائد، فسوف نصحو يومًا لنجد المصباح قد انطفأ، والاسم باقٍ بلا حضور.
فلنُسرع قبل أن يغلب علينا الصمت البارد، ولنفتح الأبواب من جديد لنسيم الملكوت يدخل ويُعيد للقلب دفء الإيمان.

read-more