✨ حينَ تُعَوِّقُ المؤسسةُ الدينية نمو الرُّوحَ: قراءة كاشفة حول الصِّدامِ المتكرر بينَ النظامِ الدينيِّ المؤسسي وبين النمو الروحي لدرجة قد تصل الي مقاومة المشيئةِ الإلهيَّة

1️⃣ مُفارَقَةُ التاريخِ الإيمانيِّ: روتين النِّظامُ في مُواجَهَةِ نمو الرُّوح
في مسيرةِ التاريخِ الإيمانيِّ، يتكرّرُ مشهدٌ لافتٌ يحملُ في طيّاته مُفارقةً مؤلمةً: وجودُ تعارضٍ ظاهرٍ — وأحيانًا جوهريٍّ — بين نظامِ المؤسّسةِ الدينيةِ كنظام ديني، بما تحملهُ من هياكلَ حجرية وتنظيماتٍ إداريّة، وبين النهجِ الرّوحيِّ الحيِّ، الاختباريِّ، الذي تنبعُ فيه الحياةُ من العلاقةِ المباشرةِ مع الله، لا من الالتزامِ الشكليِّ بالقواعد.
هذا الصِّراعُ لا يُعَدُّ مجرّدَ حادثٍ عرَضيٍّ، بل ظاهرةً متجذّرةً، قد تصلُ أحيانًا إلى حدِّ مُقاوَمةٍ صريحةٍ للمشيئةِ الإلهيّةِ باسمِ الحفاظِ على النظام.
2️⃣ أنبياءُ مُضطَهَدونَ ونِظامٌ يرفُضُ النُّبوَّة
لقد سُجِّلت هذه الظاهرةُ بوضوحٍ شديدٍ منذ ما قبل التجسُّدِ الإلهيِّ؛ فأنبياءُ العهدِ القديمِ لطالما وُوجِهوا بالرَّفضِ، لا من الغرباءِ فقط، بل من الداخلِ الدينيِّ نفسه.
لم يكن النظامُ الكهنوتيُّ في كثيرٍ من المراتِ مُتَّسقًا مع صوتِ اللهِ النبويِّ، بل غالبًا ما اصطدمَ به وسعى لإسكاته.
ثم جاء التجسُّدُ الإلهيُّ ذاته، لا ليُؤسّسَ مؤسسةً دينيّةً جديدةً، بل ليهبَ حياةً جديدةً، فكان الصدامُ حتميًّا.
المسيحُ وقف في مواجهةٍ مباشرةٍ مع الرؤساءِ الدينيين، لا لأنّه جاء بهدمٍ، بل لأنّه جاء بما لا يمكن احتواؤه داخل هياكلهم الحجرية والادارية.
3️⃣ المسيحُ في قلبِ الصِّدامِ: لم يأتِ ليُؤسِّسَ نِظامًا بل ليَهبَ حياة
لم تكن رسالةُ المسيحِ تأسيسَ نِظامٍ دينيٍّ جديدٍ يُضافُ إلى الأنظمة، بل كانت استِعلانًا لملكوتٍ داخليٍّ لا يُقاسُ بمقاييسٍ بيروقراطيّة.
لقد شفى في السَّبتِ، وغفرَ للزُّناة، ولامسَ المنبوذين، وتحدثَ بالسّلطانِ لا بالتصاريح.
في كلِّ هذه المواقفِ، كانت المشيئةُ الإلهيّةُ تتقدَّمُ على النِّظام، وكان الإنسانُ أهمَّ من المؤسّسة.
4️⃣ الكنيسةُ الأولى وصِراعُها بين البَساطةِ والبُيروقراطيّة
حتى بعد القيامةِ والصعود، لم يتغيّر المشهدُ كثيرًا. الكنيسةُ الأولى، رغم بساطتِها وامتلائها بالرُّوح، واجهت مقاومةً شديدةً من المؤسّسةِ الدينيّةِ القائمة.
ثم، مع مرورِ الزمنِ، ومع تحوُّل الكنيسةِ إلى كيانٍ إداريٍّ معقّدٍ، ظهر صراعٌ جديدٌ: كيف يمكن للكنيسةِ أن تحافظَ على حرارتها الرُّوحيّة وسط تنظيماتها المتزايدة؟
وهنا بدأ الصدامُ الداخليُّ يظهر: بين رُوحانيّةٍ أصيلةٍ تنبعُ من النّعمة، ونظامٍ إداريٍّ قد يَخنُقُ — دون أن يدري — ما أراده الله من حريّةٍ وحياة.
5️⃣ تكرارُ الصِّدامِ: تفاصيلُ لا تتغيّرُ، وهَمٌّ لا يُسمَع
والعجيبُ أن هذا الصِّدامَ يتكرّرُ حتى يومِنا هذا، بنفسِ التفاصيلِ تقريبًا: روحٌ يطلب التحرُّرَ والتجدُّدَ والتوبة، ونظامٌ يخشى الفوضى، فيُغلِقُ الأبواب.
دعوةٌ للقداسةِ تُعتَبَر "تهوّرًا"، وصوتٌ داخليٌّ نبويٌّ يُصنَّفُ كتهديد.
ورغم هذا التكرار، يغفُلُ الكثيرون عن رؤيةِ هذا المشهد، ربما لأن الضجيجَ الإداريَّ أعلى من هَمسِ الرُّوح، أو لأن الأنظمةَ تُقدّمُ نفسها بلباسِ الحقِّ، بينما تُخفي أحيانًا خوفَها من الحياة، أو من التجدد، أو من فقدانِ السيطرة.
6️⃣ تنبيه فيلوكاليٌّ: لا تجعلوا من اللهِ نِظامًا، ولا من النظامِ إلهًا
إنّ هذا التوتّرَ المتجدّدَ ليس دعوةً لهدمِ المؤسّسة، بل إنذارٌ لئلّا تُصبح المؤسّسةُ غايةً في ذاتها.
فالنهجُ الرُّوحيُّ، كما يُعبّر عنه التقليدُ الفيلوكاليُّ، لا يُعادي النظام، لكنه يرفضُ أن يُختزلَ اللهُ في لائحةٍ أو إجراء.
النهجُ الفيلوكاليُّ يُذكّرُنا دائمًا بأن العلاقةَ مع الله لا تُدارُ بمكتبٍ، ولا تُقاسُ بورقة، بل تُعاشُ بالتوبةِ، بالدموعِ، وبنارٍ تسكنُ القلب.
المؤسّسةُ التي لا تموتُ كلَّ يومٍ أمامَ المذبح، تتحوّلُ حتمًا إلى هيكلٍ بلا حضور.
والمشيئةُ الإلهيّةُ لا تسكنُ الجدران، بل القلوبَ التي تنسحقُ وتطلبُ وجهَه.

